12‏/12‏/2008

قراءة مغايرة لمأساة نجود وعائشة


بقلم: مصباح الحق

melhaq@gmail.com



ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أصعب تكرار الأخطاء حتى ولو كانت تقليداً لشخصيات تدعي النبوة، ويا ليتها تحلت بأي من أخلاق من سبقها في هذا الإدعاء. والمشكلة العويصة هو تبني الليبراليين العصريين جداً مهمة الدفاع عن أسوأ شخصية عرفها التاريخ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.لقد فاجأنا شاكر النابلسي بمقاله (نجود وعائشة: فعلٌ واحدٌ وردُ فعل مختلف) بتحف يندر وجودها إلا عند المبيضين الحقيقيين عندما قام بتبرير زواج محمد من الطفلة المدللة وربط ردود أفعال تلك الحقبة مع هذا العصر، متجنياً على الحقائق التاريخية الدامغة. وحيث قام بعض المفكرين في تشويه صورة الحقبة ما قبل الإسلام وقدموا ذلك العربي مجرداً وعارياً من أية قيم أو ثقافة أو حتى فهم أو ميول تتقرب إلى الإنسانية، لدرجة أن هذه الصورة المخيفة جعلت بعض "المثقفين والكتاب" (ولغاية ما في نفس يعقوب) يقدحون بقيم وتقاليد وأعراف "الجاهلية" ويصورن الإنسان العربي في شبه الجزيرة العربية كأنه أقرب الى البهيمية منه إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن المزيد من التسخيف والتحقير في شأن عرب قبل الإسلام يخدم الصورة النورانية التي خرج بها الإسلام، ليقولوا لنا مكابرة وجهلاً بأن الإسلام هو الذي انتشل هذا الجاهل العربي من حقبة الظلام إلى مرحلة الثقافة والعلم والتطور الخلقي من كافة النواحي.ونحن نرى عكس هذه الصورة البهيمية التي يخرجها لنا بعض المفكرين، ودليلنا على ذلك يكمن في الشعر العربي وهو مرآة حقيقية لرواية شأن وحال وظروف وعقائد فترة الجاهلية ، وتدوين معرفي وثفاقي وأخلاقي وفلسفي وحياتي، فالشاعر (زيد بن عمرو بن نفيل) يعكس التصور المعرفي للكون في عصره بقوله: دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا ويقول الشاعر (أمية بن عبد الله الثقفي): بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا حبال سواها وزينها بنور من الشمس المضيئة والهلال ومن شهب تلالأت في دجاها مراميها اشد من النضال ولنا أن نذكر أيضاً الشاعر (أمية بن أبي الصلت) [الذي قال عنه محمد أنه آمن بلسانه و استكثر الاستماع إلى قصائده ليعكسها في قرائنه مع بعض التحريف]، حيث يقول الشاعر: وأنت الذي من فضل ورحمة بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له : اذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا وقولا له : أأنت سويت هذه بلا وتد حتى اطمأنت كماهيا وقولا له : أأنت رفعت هذه بلا عمد، ارفق ، إذا بك بانيا كما نقرأ معاً قول (قس بن ساعدة) والذي يزيل عن تلك الحقبة الزمنية أي شبهة من الهمجية:يا ناعي الموت والأصوات في جدث عليهم من بقايا برعم خرق دعهم فان لهم يوما يصاح بهم فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا حتى يعودوا لحال غير حالهم خلقا جديدا كما من قبله خلقوا فيهم عراة ومنهم في ثيابهم منها الجديد ومنها المبهج الخلق ونذكر (زهير بن أبى سلمى) في قوله : فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفي، ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضح في كتاب فيدخر ليوم الحساب، أو يعجل فينتقم ومن السجع نذكر قول (قس بن ساعدة الايادي): ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وأرض مدحاة ، وانها مجردة ، ان في السماء لخبرا، وان في الارض لعبرا وكل ما جاء هو غيض من فيض ويحتاج المرء لوقت أطول للغوص في بطون الكتب والدواوين للتزيد، وما يهمنا هنا أن نعكس صورة الثقافة والمعرفة والفلسفة التي كانت لدى العربي "الجاهلي" "الهمجي" كما يصوره شاكر النابلسي. والمفاهيم والأفكار السابقة البيان هي ذاتها ما لملمه القرآن بين دفتيه، بل من سمو ورفعة تلك الحقبة نجد حتى ما أطلق عليهم اسم "الصعاليك" كانوا على غاية من الشهامة والنبل والمروءة والأخلاق، لدرجة أنه شاع عنهم مساعدتهم وصونهم للجياع والفقراء والمحتاجين والنساء عامة، ولم يهاجموا سوى الأغنياء البخلاء من سادة القوم. فهل يمكن أن نطلق صفة ("العصر الهمجي") على فترة "الجاهلية"؟ومن المعلوم بأن حياة البدو والصحراء اعتمدت على النظام العبودي وانتشرت فيه عادة التسرى بالإماء، فكان للرجل ان يهب أو يبيع أو ينكح أمته وجاريته أو يجعلها وسيلة للعيش بجبرها على البغاء؟ وهل غير الإسلام أي شيء من ذلك؟ فهاهو القرآن يقر بالبغاء بمواربة لا مثيل لها في سورة النور بنصها "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌِ." ويبدو جلياً بأن محمد حاول تحريم البغاء ولكنه أبقى علي نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ {النساء/3}، بل أكتفى بالقول (إن الله غفور رحيم) لو أجبرت الفتاة على البغاء تفادياً لمواجهة عبد الله بن ابي بن سلول , الذي كان له إماء يمارسن البغاء وكان يأخذ منهن ما يحصلن عليه من اجر ، حيث يقول الطبري في أسباب نزول تلك الآية ما يلي: " أن أمة لعبدالله بن أبي امرها فزنت, فجاءت ببرد , فقال لها ارجعي فازني , فقالت والله لا افعل , ان يك هذا خيرا ( أى الزنا ) فقد استكثرت منه , ان يكن شرا فقد آن لي أن ادعه " ماذا سيحدث لمن وَمَن يُكْرِههُّنَّ ٌِ " وما هو جزاءه ؟؟.. هذا التعمد الواضح في ترك الامر مبهما على هذا النحو إنما يهدف لإفساح المجال أمام محمد لاتخاذ الموقف الذى يشاء من ابن سلول. و لا يعطي اى ذريعة لابن سلول في اتهام محمد بالسعي الي تحريض جواريه عليه او كما قال "يغلبنا على مملوكتنا"فبأي شيء نفتخر به مع مقولة شاكر النابلسي بأن قيم ("العصر الهمجي" لا تصلح لنا ولعصرنا، بعد أن أصبنا من المدنية والتحضر، النصيب الذي نحن فيه الآن. ولذا، فقد جاءت الأديان السماوية كلها قبل 15 قرناً لتردع وتهذّب تلك الأمم الخاشمة والهمجية. ولو كانت تلك الأمم راقية، وذات قيم رفيعة، وحسنة السير والسلوك لما احتاجت السماء للتدخل، والردع الديني القاسي والشديد، على النحو الذي هو في النصوص المقدسة)انتهى؟ أي ردع ديني قاسي يقصده في النصوص المقدسة، وقد انتشر البغاء والتسري والإماء بعد ما استقوى الإسلام أكثر مما كان عليه قبله، وقرأنا للتو ما قاله "الله تعالى" في قرآنه العظيم؟ ومن بعدها نتوجه للقول والاستنتاج - وليس من فراغ- أن الحقبة ما قبل الإسلام وما فيها من إشارات وومضات وإيحاءات محفوظة خلت كلها من أدنى إشارة إلى شيوع واقعة زواج من الأطفال في شبه الجزيرة العربية قاطبة، وأغلب ما يمكن التوصل إليه هو أن للفتاة الحق في التوجه لطلب الزواج عند تأخر سنها بحد أقصى الثانية عشرة، فكان لها كعلامة لذلك الطلب أن تسدل شعرها، وتضع الكحل على واحدة من عينها، وتخرج في الليل منادية (يالكاح، أبض النكاح ، قبل الصباح)، مما يؤكد حرية اختيارها لزوجها، والكل يعرف قصة (هند بنت عتبة) ومقولتها المعروفة. وكان للمرأة حق تطليق زوجها بقلب مدخل الخيمة من الشرق إلى الغرب، ويكتفى بذلك أن يحترم المُطلق رغبة زوجته. أما العصمة في الإسلام فهي بيد الرجل المستبد.وهناك لمحات تاريخية متفرقة تشير إلى أن المرأة العربية قبل الإسلام كانت تتمتع بكثير من الحقوق التي يدعي المسلمون أن الإسلام وهبها إياها. ونحن إن تأملنا هذه الحقوق ، لوجدنا أن الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة ليست إلا امتدادا وإقرارا للحقوق التي حازتها نساء ما قبل الإسلام، بل سلبها من بعضها عندما جعل تلك الحقوق مسكوبة في قوالب جمدها للأبد بالقرآن والسنة ومنعها من التطور باختلاف الزمن والبيئة، فأصبحت قيم القرآن لزاماً صالحة لنا في وقتنا هذا، وليس كما يقول شاكر النابلسي بأن ما شاع من زواج الأطفال والذي بدأه محمد تاريخياً في المجتمع العربي (لا يصلح لنا ولعصرنا)، فهو بهذا ينكر معلوم الدين بالضرورة (لكم في رسول الله أسوة حسنة) و(أنك لعلى خلق عظيم).بل أن "العصر الهمجي" تنبه إلى حقيقة أن زواج الاقارب يسفر عن الضاوين (كل ذي تشوه ولادي)، أما القرآن فقد غابت عنه هذه الفكرة وضاع الإعجاز العلمي عندما أباح الزواج من ذوي القربة، ونجد في العديد من المجتمعات العربية وباكستان وإيران حتى الآن قيام أولياء الأمور بتزويج الأطفال من القرابة أسوة بما سنه محمد. ثم يبهرنا المفكر شاكر النابلسي بقوله: (والعربي الذي كانت غرائزه تهيج هيجان غرائز الحيوان، عندما كان يشاهد في الطريق امرأة سادلةً شعرها، ومتزيّنة، يفوحُ منها عبق العطر وأريجه، فتشتهيها نفسه، ويهمّ لو يخطفها، أو يعتدي عليها في الطريق، لو أمكنه ذلك ( وهذا مبرر الحجاب في ذلك الوقت) قد تغيّر الآن، وأصبح أكثر تهذيباً، وأقل هيجاناً وغرائزية وشبقية من ذي قبل، وسيطر بعض عقله على بعض غرائزه). انتهى. وقد سمعنا عن "المغيبات" وقت محمد وعن السعر الجنسي في عصره والذي لم يحرم نفسه منه لدرجة أمره بالزواج من زينب، وضرب بعرض الحائط موضوع التبني الذي كان يعتز به (العصر الهمجي) قبل الإسلام لما فيه من إنسانية ورأفة، ولدرجة أن الآيات الناهرات والمهددات لم تقيد أو تلجم الهيجان الجنسي فاضطر محمد للقول (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، ما من رجل يخالف إلى امرأة رجل من المجاهدين إلا وقف يوم القيامة فقال : هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما بدا لك فما ظنكم ) و (مثل الذي يجلس على فراش المغيّبة مثل الذي ينهشه أسود أي ثعبان من أساود يوم القيامة). فلا القرآن ولا أحاديث محمد أسعفت الهائج من الهائجة، والعكس صحيح، وللاستزادة عن هذه الأمور ننصح بقراءة (مجتمع يثرب) للكاتب (خليل عبد الكريم). فالجنس والسعر الجنسي لم يتغير مع مجيء الإسلام يا شاكر النابلسي ولن يتغير مع مجيء ديانة رابعة، بل هو العقل والتهذيب والأخلاق الإنسانية التي ترفع الإنسان لمستويات أرفع من الوضاعة التي أشرنا إليها، ولا نجد أية إيجابية في أي دين ساهم في إعلاء ذلك عند الإنسان.ومن لمحات حياة المرأة ما قبل الإسلام، نورد بعض الأمثلة العاكسة للحقوق التي تمتعت المرأة بها في (العصر الهمجي)، ونبدأ بحقيقة لا ينكرها ناكر وهي عبادة العرب قبل الإسلام المؤنث من الآلهة ، مثل اللات والعزى ومناة. وسبق أن ذكرنا الشعر ونضيف معلقة (عمرو بن كلثوم) والتي تلمح في أبياتها مجالس للنسوة وتأثيرهن الحيوي على الحياة الإجتماعية ومجرياتها. والعرف كان تخصيص أول أبيات المعلقات لذكر الحبيبة وأطلالها، وجاء الإسلام فيما بعد ليلعن الشعراء. كما أن خديجة بنت خويلد تذكرها جميع مصادر السيرة الإسلامية بالمكانة العالية التي تمتعت بها في حياة "الجاهلية" القرشية. وهي من امتلكت ثروة ورثتها عن أبيها وأزواجها، ولعبت دوراً كبيراً في التجارة، وهي التي "أمرت" محمد الزواج منها. ولدينا المرأة الحديدية (هند بنت عتبة) زوجة (أبي سفيان) التي تمتعت بسطوة ونفوذ كبيرين وهي وراء الحشد لمعركة أحد، وهي من القوة بمكان أن ردت على محمد بقولها "أنبي وحقود" عندما شتمها بقوله "هند آكلة الكبود"، وهذا يشير إلى عزتها وصلابتها وثقتها بذاتها. ونأتي على ذكر (فاطمة بنت ربيعة بن بدر بن عمرو الفزارية) والمعروفة بأم قرفة والتي ضرب بها المثل (أعز من أم قرفة) والكل يعرف ما فعله نبي الرحمة بأم قرفة. ونرجع بالتاريخ إلى حقبة وجدت فيها شخصيتين مشهورتين من النساء العربيات وهما بلقيس ملكة اليمن وزنوبيا ملكة تدمر، ونتذكر معاً قول محمد (ما أفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة) ليقود أكثر وأكثر من مكانة المرأة ودورها في الحياة وتفوقها على الرجال، لو أتيحت لها الفرصة، فهي كفء للرجل، إن لم تبزه، وما ذلك سوى تطويع الجنس وجعل المرأة مطية للرجل وحرث له في الإسلام فحسب. من هذه الأمثلة السريعة نجد أن المرأة الجاهلية تمتعت بحق الملك والوراثة واختيار الزوج والتجارة والحكم والمشاركة الفعالة في كافة نواحي الحياة، بل حتى في النشاط الديني وترأسه، ولم نسمع أبداً عن سابقة للزواج من القاصرات قبل جناية محمد وشغفه المرضي في هذا التوجه. بل أن أبا بكر أعرب عن تردده وتفاجئه من طلب محمد للزواج من عائشة حيث تقول الرواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر : وهل تصلح له ؟ إنما هي بنت أخيه , فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : ارجعي فقولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي , فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : ادعي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجاء فأنكحه ". وعلامات الاستغراب "هل تصلح له" لا تدعم ما يذهب إليه النابلسي بأنه الموضوع كان عرفاً شائعاً، مما يدل بما لا يقبل الشك بأن ذلك الفحش الطفولي لم يكن معروفاً لدى العربي (الهمجي). ولم نسمع عن أي من أعيان ورجال عصابة محمد في ذلك الوقت من قام بنفس الواقعة، فكلهم تزوجوا من نساء بالغات إلا عمر، والذي تزوج في الجاهلية من امرأة بالغة ولم يتزوج طفلة إلا بعد أن فعلها محمد فأصبحت سابقة، وكذلك تردد علي بن أبي طالب، فالقصة تقول: –(كان عمر قال لعليّ :زوّجني يا أبا الحسن فإني سمعت رسول الله –ص- يقول : كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري .. فزوجه أم كلثوم. وفي رواية : أن عمر بن الخطاب خطب أم كلثوم فقال عليّ : إنها صغيرة فقال عمر : يا أبا الحسن زوجنيها فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد ، فقال علي أنا أبعثها عليك فإن رضيت فقد زوجتكها ، فبعثها ببرد فقال لها : قولي له قد رضيته رضى الله عنك ، ووضع يده على ساقها فكشفها فقالت له : أتفعل هذا ؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك [في رواية أخرى للطمت عينيك]) ثم خرجت حتى جاءت أباها وأخبرته بالخبر وقالت : بعثتني إلى شيخ سوء ! فقال : مهلاً يا بنية فإنه زوجك ). والقارئ الحيادي يرى ما نراه من تردد لدى علي واستغراب لدى أم كلثوم، فأين العرف السائد في ذلك الوقت يا شاكر النابلسي، أم أن استغراب الطفلة أم كلثوم هو من معاينة عمر للبضاعة فقط، وهو ما كان حقاً سائداً؟ فلا مكان لما يذهب إليه النابلسي بقوله (كان السبب في ذلك أن أبا بكر فعل ما فعله، ضمن سياق القيم العامة للمجتمع في ذلك الوقت.) وهذا لعيني تجني على التاريخ وحقائقه، ونحن فعلنا في هذا المقال ما قاله النابلسي في قراءة الإسلام (قراءة تاريخية من داخل التاريخ، وليس قراءة حرفية من فوق التاريخ).وما تركة الإسلام سوى تذويب هذه الحقوق بالقرآن والشريعة ومنعها من التطور حسب العصر والزمان، بل زاد الإسلام من تحقير المرأة عندما حدد تعدد الزوجات بأربعة مع فسحة واسعة للتطليق التعويضي { مع استثناء محمد لنفسه بأية صريحة (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيماً)، وما كان من عائشة الطفلة وقت إبرام الصفقة السياسية بين أبي بكر ومحمد إلا أن تقول عند بلوغها سن الرشد مقولتها المشهورة (إن الله يسارع لك في هواك) معترضة على أفعال محمد الشبقة وسعره الجنسي، ولا تقل هذه المقولة شأناً اليوم عما قالته نجود محمد (أنا الآن فرحانة بالطلاق وأريد ان أذهب لأدرس)، فلو أتاح الإسلام للمرأة تطليق نفسها والذهاب للدراسة وبنى المدارس بدلاً من المساجد لقالت عائشة أنها ترغب في الدراسة بدلاً من الانشغال بالتلاسن مع زوجات محمد، ولكان (حالنا غير هذا الحال، ومآلنا غير هذا المآل).



في موت السياسة وغياب القانون


برهان غليون: الحوار المتمدن


ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟ سؤال فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.هناك في نظري أربع تجارب أو بالأحرى محن تفسر ربما هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية. الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟ التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟ أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها. في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.

11‏/12‏/2008

تزييف التاريخ

بقلم : Self Directive

إن التاريخ إذا كان يسعى إلى إدراك الماضي البشري , فإنّ الإدراك هو غير التوهّم أو التخيّل و التصوّر , سواء أكان هذا أو ذاك عن وعي أم عن غير وعي.فالشعوب في مراحلها البدائيّة حين يغلب الوهم على المنطق العقلاني , و الخيال على النقد , و التصوّر على التحقيق, تتناقل أحداث ماضيها مضخّمة مفعمة بالبطولات – بطولات الآلهة و بطولات البشر , فتروي الخرافات و تنشد الملاحم , و لا تلتزم الواقع كما حدث فعلاً .و لقد بقي هذا العنصر الوهميّ ملتصقاً بالمجهود التأريخي يؤثّر فيه , إلى أن انتظم علم التأريخ الحديث في القرن الأخير فدعا إلى التحرّر من هذا العنصر, و إلى مجابهة الماضي و أخباره بأدوات النقد و التحقيق التي تتميّز بها المعرفة العلميّة.و للأسف فلا تزال الكثرة من الناس تتوهّم ماضيها و ماضي غيرها , و لا تدركهما أو تعيهما حقّاً.إن ما كُتب من التاريخ سواء في القديم أو في الحديث , قد أخذ شكل التركيز على الحكّام و الشخصيّات , أكثر منه على الإنسان العاديّ , فبدلاً من تاريخ الشعب وجدنا ما يسمّى بتاريخ البلاط. فالكثير من جوانب تاريخنا كتبها أناس مأجورون من قبل الملوك.

كما لم نعن في كتابة تاريخنا بتاريخ الإقتصاد و الإجتماع و الفكر , و التي هي محاور رئيسيّة في منهاج المدرسة الحديثة في التاريخ. تلك المدرسة التي تهدف إلى الإفادة من التاريخ في إصلاح شؤون المجتمع , و وضع الحلول المناسبة لمشكلاته , بمعنى توظيف التاريخ في خدمة المستقبل , و ليس دراسته من أجل الماضي كماضٍ فقط.و مع حلول منتصف القرن التاسع عشر بدا للباحث أنّه كانت هنالك محاولات جديّة لتفسير التاريخ بأسلوب علميّ , فقد برزت نظريّات طبيعيّة تؤكّد أنّ الجغرافيا و المناخ و الغذاء هي الأساس الذي يشرح التطوّر الإجتماعي , و إنّه لمن الجدير بالذكر التنويه بأنّ (باكل) و هو رائد هذا الميدان لم يفته اعتبار العقل البشري كعامل من عوامل التقدّم الإجتماعي. و قد برزت في ذلك الحين بعض النظريّات الإقتصاديّة , كتلك التي قال بها كارل ماركس , و التي تحاول أن تردّ التطوّر الإجتماعي إلى أنّه تفسير لعوامل اقتصاديّة كالإنتاج و التوزيع و صراع الطبقات الذي يخلقه الإنتاج و التوزيع. و مع أنّ أساس نظريّة ماركس و إنجلز كان ماديّاً , إلاّ انّهما أدركا حقّاً أهمّيّة العوامل الآنيّة كالعقل و النظم , و اعترفا بأنهّا تلعب دوراً أساسيّاً في التاريخ . و ها هو المنحى الأنثروبولوجي يغدو مهمّاً أكثر فأكثر في مجهوداتنا لفهم المجتمع البشري.

يبدأ التاريخ حين يبدأ الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعيّة - دورة الفصول , أمد الحياة البشريّة - و إنّما بوصفه سلسلة من الأحداث المحدّدة التي ينخرط فيها الناس و يؤثّرون فيها , بصورة واعية. إنّ التاريخ بكلمات (بوركهاردت) هو انقطاع مع الطبيعة يحدثه استيقاظ الوعي" فالتاريخ هو النضال المديد للإنسان - عبر استخدامه عقله - لكي يفهم بيئته و يفعل يها. و لكن الفترة الحديثة قد وسّعت هذا المفهوم , فالإنسان الآن يفهم و يفعل ليس في بيئته فحسب , و إنّما في نفسه كذلك. و قد أضاف هذا بعداً جديداً إلى التاريخ.

ضرورة إعادة كتابة التاريخ

إنّ التاريخ المدوّن هو بمثابة سجن للإنسان , فهو يعيقه عن النظر إلى الواقع بتجرّد و موضوعيّة , لأنّه يخلط بين أفق الإنسان الفرد و أفق محيطه , يخلط بين الذّات و الموضوع , بين الأنا و غير الأنا , بين العالم و المعلوم , بين النسبيّ و المطلق. و ممّا يساعد على ذلك و يعزّزه - كما هو نتيجة له - هي سطحيّة التفكير , الناشئة عن تكوّن المفاهيم في العقل بطريقة انطباعيّة تقوم على التأثّر لا على الدراسة و التحليل و النقد . و نقطة الضعف هذه أصبحت ظاهرة عمّت الجموع البشريّة التي لازالت تقبع تحت وطأة القهر , سجينة ظلمات التاريخ , سجن الإنسان الأكبر , و الذي ما فتئنا نجترّ صفحاته الخاوية من أيّ معنىً من معاني الإنسانيّة الإيجابيّة , التي تدفع الجموع لتحقيق العدل و إحقاق الحقّ و نشر الجمال سلوكاً و المنطق مرجعاً و العلميّة منهجاً. إذ أن أغلب الأحداث المدوّنة كانت تُعدُّ في المطابخ السياسيّة بعيدةً عن أعين الجمهور , حيث كان يجري لها من الرتوش و الإخراج ما يخفي دوافعها الحقيقيّة , لتضليل الحشود و لإضفاء الشرعيّة على أفعال سلطات البطش و الجشع.

إنّ ما كتب من التاريخ تنقصه الموضوعيّة , فنجد غياب العقلانيّة و تسليط أساليب النقد على هذا التاريخ , فجزء كبير من التاريخ تغلب عليه النظرة الرومانسيّة العاطفيّة , أكثر من النظرة المتّزنة العقلانيّة , و اتي هي في حقيقتها تعويض عن مجابهة الحقيقة و هروب منها , تماماً كما يفعل المصاب بأحلام اليقظة.إن الأفراد و الأمم عندما تكون سطوة الماضي قويّة نافذة , و صورته مستولية على النفس متحكّمة بالعقل , يتوقّف النشاط لديهم و تخفّ حيويّتهم , اكتفاءً بما حقّق و قناعةً به و استكانةً إليه , فينحصر الجهد و النشاط في محاولة إعادة مجرى التاريخ و رسم الحاضر على صورة الماضي.هذا الجمود يتطلّب أوّلاً ممارسة النقد الذاتي , ليزيل نير السطوة المتحكّمة , بتمييزه بين الصالح و الفاسد , و الزائل و الباقي , والنافع و الضار , فيغدو بذلك مبدأ النقد الذاتيّ عامل نهوضٍ أساسيّ.يقول في هذا الصدد د . قسطنطين زريق : إن للثقافة التأريخيّة المحترمة للماضي , فعل تركيز و توطيد و تأصيل . أمّا عندما نعمد إلى نقد الماضي , فإنّها تغدو أداة إطلاقٍ و تحرير, تحرّرنا من سطوة الجهل و من غرور الوهم و التواكل , و تهيب بنا إلى تحرّي الحقيقة مهما يكن طلبها شاقّاً و تكاليفها عسيرة . إنّها تنمّي في نفوسنا القدرة على مجابهة نتائج هذا التحدّي و استساغتها مهما يكن منظرها مؤذياً و طعمها مرّاً . إنّها تطرد الخوف من قلوبنا و تبعث فينا الجرأة و تكسبنا المتانة العقليّة و الخلقيّة و النفسيّة التي تصمد أمام الواقع و تعلو عليه . إنّها تصفّي أصالتنا ممّا علق بها من أدران , و تعيد الحياة و النشاط إلى جذورها , فتجعلها أصالة ً إيجابيّةً مثمرة , لا أصالة ادّعاءٍ وتيهٍ و ارتداد.

إنّ التركيز و التحرير عملان متناقضان ينفي أحدهما الآخر و يزيل أثره . و إنّ ما ينتجه الأوّل من تثبيتٍ و توطيد , ينقصه ما في الثاني من انطلاقٍ و انعتاق.إنّهما على العكس , عملان متكاملان يقوّي أحدهما الآخر و ينمّيه , و لئن كان بينهما تناقضٌ و اصطراعٌ داخلي , فإنّ هذا الإصطراع ذاته - هذا التجاذب و التنافر - هو عامل من عوامل النمو و الإغتناء و الخصب و الإبداع.فكلٌّ من الإتجاهين يتغلّب بإيجابيّته على سلبيّة الآخر , فتعزّز إيجابيّة كلّ منهما و إيجابيّتهما المشتركة.و بهذا تبلغ الثقافة التأريخيّة الداعية إلى معرفة النفس و نقدها, المركّزة المحرّرة , المؤصّلة المتسامية - تبلغ هذه الثقافة غايتها , و تحدث آثارها المنشودة في الفكر و العمل , في فهم الحياة و في صنعها.

إنّ ما يدفعنا لإعادة كتابة تاريخنا , أنّ التاريخ مقوّم من مقوّمات النهضة , و عمودٌ أساسيٌّ في الهيكل البنائي لشخصيّة الأمّة. فالتاريخ بحسب رأي المؤرّخ الفرنسي (ميشيليه) هو "رؤية من الداخل و عمليّة بثّ كاملة". فالتاريخ هو عاملٌ أساسيّ في تعميق الهويّة , فالتاريخ هو الذاكرة القوميّة للشعوب , و ذاكرة الشعوب كما هي ذاكرة الأفراد , إن أصابها خلل , انسحب هذا الخلل على الكيان العام لهذه الأمة , حتّى إذا استعيدت هذه الذاكرة الجماعيّة , سهل علاج هذه الأمّة.

من هذا القول , و ما يتعلّق منه بإعادة بناء الشخصيّة , ما يجعلنا نحدّد ثلاثة أمور :الأمر الأوّل أنّه لا بدّ من معرفة أبعاد تاريخنا جميعها , الجيّد منها , و غير الجيّد. فترات الإستشراق و التقدّم , و فترات الظلام و التخلّف . تماماً كما نقوم بالتعرّف على أبعاد شخصيّة مريض الذاكرة , و الذي لا بدّ له من تحليلٍ كاملٍ لماضيه , حتّى يعي هذا الماضي وعياً دقيقاً , فتعود إليه ذاكرته و يستردّ عافيته.و الأمر الثاني هو أنّ التاريخ المكتوب بصدق , و الذي يتّصف بصفة الشموليّة , له دور كبير في تطهير الشخصيّة , فمريض الذاكرة يتطهّر من عيوبه و آفاته , إذا أخرجنا ما في لاوعيه إلى ساحة الوعي , و مافي لاشعوره إلى ساحة الشعور , فلا تعود الأمور غير المرتّبة في عقله الباطن تؤثّر تأثيراً سلبيّاً على عقله الواعي و ممارساته الظاهرة.الأمر الثالث أنّه بالدراسة التحليليّة لتاريخنا , نحرّر شعبنا من الكوابح التي تشدّه إى الوراء و تعيقه عن الإنطلاق , فنحقّق له بذلك تفجيراً لطاقاته المبدعة , و نسير به نحو الثورة الحقيقيّة على الذات , هذه الثورة التي تحقّق المعجزات , و تدخل من جرّائها الشعوب التاريخ من أوسع أبوابه.و في ذلك نستطيع من خلال وعي ذاتنا , و معرفة آفاق شخصيّتنا , و الوقوف على معاني الإبداع و القوّة فيها , بعد أن نكون قد تعرّفنا على عوامل الضعف و التخلّف من أجل أن نتجنّبها و نبتعد عنها , نقوم بنهضة حقيقيّة تفعّل وجودنا لصالحنا و صالح عموم الإنسانيّة.

ممّا تقدّم نلخص إلى :إن غاية التاريخ هي إدراك الماضي كما كان , لا كما نتوهّم انّه كان , لهذا لا بدّ من مستوىً عالٍ من المنهجيّة التاريخيّة . فلا تاريخ بدون بحثٍ عميق و استقصاءٍ عريض , كما أنّه لا تاريخ بدون نقد . و هذه المنهجيّة تقتضي مزيداً من العلميّة , بمعنى تسليط منطق العلم على التاريخ, فلا بدّ إذاً من الموضوعيّة , نرى أنّ بعض علماء الحديث قد شرعوا في الإهتمام بالموضوعيّة , و تحرّي الحقيقة فيما يذهبون إليه , كما حرصوا على التأكيد من الأخبار و الروايات , فسلّطوا عليها سيف النقد , و أوجدوا ما عُرِفَ بعلم الجرح و التعديل.من المتطلّبات الأساسيّة في التأريخ , ميّزة التجرّد . حيث أنّها مزيّة مطلوبة في كلّ علم , مفروضة على كلّ باحث, و التجرّد يلزمه الحرّيّة لكتابة التاريخ , هذه الحرّيّة التي تحرّر افنسان من سجن التاريخ , إذ لا بدّ منها حتّى نكتب تاريخنا بموضوعيّة و صدق, و من أجل أن تتلاقح الآراء للوصول من خلال الحوار إلى الحقائق , و إلاّ فسيبقى التاريخ مكبّلاً آسراً لنا و لطاقاتنا , و أسيراً لمغالطاتنا و أوهامنا.الدقّة في النقل , و الدقّة في التفكير و التعبير , شرط أساسيّ صريح من شروط أيّ بحثٍ علميّ , و هي في صميم تقليد العلم المتراكم , و من أهمّ عوامل تقدّمه و رقيّه. و الدقّة تتطلّب تفسير الأحداث التاريخيّة و تحليلها تحليلاً دقيقاً , فلا ينبغي الإكتفاء بذكر الأحداث بدقّة , بل لا بد من تفسيرها. يجدر بي هنا أن أشير إلى مسألة هامّة بالنسبة للدقّة في التفسير لدى المنهجيّة العلميّة للدراسة التاريخيّة , ألا و هي تحليل التغيّر عبر الزمن.على ضوء هذه الإعتبارات يمكن الإحاطة بكيفيّة إعادة كتابة التاريخ , للبدء في عمليّة صقل شخصيّتنا القوميّة بأصالة و وضوح.

تحريف التاريخ

حقائق التاريخ – المشتملة على جميع نواحي وجود الإنسان – لا تصل إلينا مطلقاً بصورة بحتة , لأنّها لا توجد و لا يمكن أن توجد بصورة بحتة , فالماضي لم يعد موجوداً , و لكن يمكن تتبّعه بفضل الطرق الفنّيّة التي تعطينا أدلّة تمدّنا بها العلوم الطبيعيّة و التقنيّة , عن طريق البحث العلمي في الآثار الماديّة الباقية , و أيضاً نقرأه في المؤلّفات و الوثائق التاريخيّة , و لكن علينا أن نعي أن الحقائق التي وصلت إلينا بشكلٍ مكتوب تنعكس من خلال ذهن من قام بتدوينها , فيترتّب على ذلك أنّنا إذا ما تناولنا في البحث عملاً تاريخيّاً يجب أن لا يكون اهتمامنا الأوّل منصبّاً على الحقائق التي يتضمّنها , و إنّما على المؤرّخ أو المؤلّف الذي كتبها . فغالباً ما يستعين المؤرّخ بخياله في إتمام الوقائع و تأويلها , فهو يصل إلى نتائج كان يرمي إليها منذ البداية متأثّراً بأهواءه , يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه , فخياله في تأويل الوقائع ليس محادياً.

يرى الباحث المنقّب من خلال ما رواه المؤرّخون المثبتون , و ما ذكرته مؤلّفاتهم , أنّه ليس إلاّ أحاديث خرافة أو أقاصيصٌ مُفتراة , كانوا قد قصدوا منها إلى تمجيد فريقٍ من الناس تمجيداً فيه أطنابٌ و أسراف , و إلى تحقير فريقٍ آخر تحقيراً لا إنصاف فيه . ثمّ تدال الناس هذه المفتريات أجيالاً تلو أجيال , فقرّت في أذهانهم كأنّها حقائق , حتّى قام بعضٌ من علماء و باحثي هذا العصر بالتنقيب عن آثار الماضي و فحص أسانيده , و استعانوا بالعلوم المساعدة كعلم الآثار و الأبيغرافيا و الكرونولوجيا و غيرها , مرتكزين بذلك على أدوات العقل في التفكير المنطقيّ من تحليل و تفكيك و تركيب , إلى مقارنة و قياس و تمحيص , فأماطوا اللثام عن كثيرٍ من تلك الأكاذيب الذائعة , فبيّنوا لنا أن المؤرّخين القدماء قد عظّموا أناساً لا يستأهلون التعظيم , و ظلموا آخرين لم يقترفوا ما نُسِبَ إليهم زوراً.إنّ عدم المصداقيّة التي دوّن بها أولئك المؤرّخين , إنّما تعود على فشلهم في تحرير أنفسهم من العوامل المؤقّتة الدخيلة على الإنسان , و على رأسها الوطن و الدِّين. كما ترجع أيضاً على من قام منهم بتلبية أهواء الملوك و القادة المُغرضة.إنّ المؤرِّخ كغيره من النّاس , يتأثّر بالدّين الذي وَجَدَ نفسه مُلزَماً باعتناقه , كما يتأثّر بمعطيات الوطن الذي ورثه , و أخلاقيّات و سلوكيّات الجماعة التي ينتمي إليها .و لا يجدر بنا أن نصبّ عمليّة البحث التاريخيّ على العنصر الوثائقيّ فقط , إذ من الأحرى بنا أن نولي بالدراسة شخص المؤرّخ أو المؤلّف ذاته , و أهواءه المستمَدّة من بيئته , مراعين بذلك الطبيعة الظرفيّة الزمكانيّة آنذاك . و بما أنّه لم يحدث تغييرٌ جليلٌ في طبيعة الأمزجة الإجتماعيّة في الفترات التي عاشها من عاصر و نقل ما وصل إلينا من وثائق و أخبار , حتّى يومنا هذا , فإنّه من السهل القيام بالمقارنات و تحليل الماضي الُمنصرم على ضوء الحاضر المُعاش .

إنّ ما يدفع المؤرّخين عادةً إلى التحريف و الكذب (مؤلّفي الوثائق – مدوّني الوقائع) هو :1- أن يحاول المؤلِّف أن يجتلب لنفسه منفعةً عمليّة , و يريد أن يخدع القارئ للوثيقة لدفعه إلى القيام بعمل أو صرفه عنه . و لتحديد الأقوال المتّهمة ينبغي أن نتساءل عن المصلحة التي اعتقد المؤلِّف نفسه أنّها له , و ذلك عن طريق البخث في ميوله الفرديّة التي اكتسبها من ميول الجماعة التي ينتمي إليها , كالأسرة , الإقليم , الوطن , الطبقة الإجتماعيّة , الدين السائد , الحزب السياسيّ . و لكنّ هذه الإنتماءات قد تتعارض مصالحها أحياناً , فيجب علينا أن نميّز الجماعة التي يتشيّع إليها أكثر من غيرها , و التي كان يعمل لها .2- أن يكون المؤلَّف في موقفٍ أرغمه على الكذب , و هذا ينطبق على جميع الحالات التي يكون فيها في حاجةٍ إلى كتابة ما يتوافق مع القواعد و العادات الشائعة .3- أن يكون المؤلِّف يستشعر عطفاً أو كراهيةً لجماعةٍ من الناس (أمّة , أسرة , فرقة , مدينة , إقليم , حزب) أو لمجموعٍ من المذاهب و المؤسّسات (دين , فلسفة , فرقة سياسيّة) , ما دفعه إلى تشويه الوقائع ابتغاءَ أن يُعطي فكرةً حسنةً عن أصدقائه , و سيّئةً عن خصومه في الإنتماء أو التوجُّه .4- أن يكون المؤلّف قد انساق وراء غرورٍ فرديٍّ أو جماعيّ , فكذب ابتغاء تمجيد شخصه أو الجماعة التي ينتمي إليها , و قال ما اعتقد أن يُحدِث في القارئ تأثيراً ينطوي على ما يؤكّد أنّه هو أو بني جماعته كانوا ذوي مناقب جليلة . و هنا لا يصحّ , عند البحث في هذه النقطة , القيام بعمليّة قياس الغايات إن قمنا بتقمّص دوره , فلعلّه إنّما كذب ابتغاء أن ينسب لنفسه و لقومه أفعالاً تبدو لنا ذميمةً شائنة , بينما كانت هي بالنسبة إليه و لقومه أفعالاً محمودة , و الأمثلة في هذا كثيرةٌ سواء في التاريخ القديم أم الحديث منه .5- أن يكون المؤلّف أراد تملُّق الجمهور , أو على الأقل أراد أن يتجنّب الصدام معه . فتراه يُعّبِّر عن العواطف و الأفكار المتّفقة مع أخلاق جمهوره و البدع السائدة عنده . حتّى و إن كان هو ذا عواطف و أفكارٍ مخالفة , فإنّه يشوّه الوقائع و يلائم النصّ ابتغاء التكيّف مع أهواء جمهوره .6- أن يكون المؤلّف قد حاول تملُّق الجمهور بميولٍ أدبيّةٍ , فشوّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوّره للجمال و بحسب الذائقة العامّة المعاصرة لمؤلّفاته .و لدينا في تاريخنا في هذا الشأن مثالٌ بارزٌ صَبَغَ التاريخ من بعده بلون ما شوّه للأسباب التي ذكرناها .

و من الأنواع المعتادة في التشويه الأدبي :- التشويه الخطابيّ : و هو أن ننسب إلى الأشخاص مواقفاً و أعمالاً و عواطفاً , بكلماتٍ تنمُّ عن النُبل , و هذا ميلٌ معهودٌ لدى مبتدئي فنّ المتابة و التأليف .- التشويه الملحمتيّ : هو أن يُجمِّل الحكايا بإضافة تفاصيلٍ جذّابةٍ مشوّقةٍ , و خِطَبٍ يدّعي أنّ أناساً ألقوها , و أسماء أشخاصٍ و ختّى أرقاماً , و ذلك أنّ ذِكر تفاصيل دقيقة توهم الصدق .- التشويه الدرامي : و هو أخطر أنواع التشويه , حيث يحشد المؤلّف الوقائع ابتغاء زيادة قوّتها الحبكويّة , و ذلك بأن يركّز على لحظةٍ واحدةٍ أو شخصٍ واحدٍ أو جماعةٍ واحدةٍ , وقائع مشتّتة .و هنا ندرج بعضاً من الأمثلة التي نالت قسطاً كبيراً من التزييف , و تناقلتها الأجيال بالتواتر و بالتسليم بما قد كُتِب :
يقول المؤرّخون أنّ الإسكندر المقدوني بكى حين دخلت جيوشه أرض الهند , لأنّه بذلك كان قد أخضع كلّ أرضٍ معمورةٍ في أيّامه , فلم تعد ثمّة أقاليمٍ يغزوها و يسودها . و لكن يوجد من الأدلّة ما يُثبِت أنّ جيوشه كانت قد هُزِمت أمام الجيوش الهنديّة , و أنّه اضطرّ إلى أن يرجع القهقرى مهزوماً .

كما أراد المؤرّخون الإشادة بشجاعة الإغريق و بسالتهم , فيؤكّدون أنّه حين احتشدت جيوش الفُرس الزاحفة تحت أمرة (اكزرسيس) عند ممرّ (ترموبيلي) , تصدّى لها ثلاثمائة إغريقيّ فقط ! فانهالوا على كتائب الفُرس تقتيلاً حتّى كادوا يردّونها على أعقابها . و لكن البحث التاريخيّ يُثبت أنّ جنود الإغريق لم يكونوا ثلاثمائة , بل كانوا اثني عشر ألف جندي على الأقل . و أنّهم لم يصمدوا لقوّات الفرس التي أودت بهم جميعاً .
و بالغوا في الحطّ من تاريخ (نيرون) حتّى صار مضرب المثل في البغيّ و العسف . فاتّهموه بأنّه أمر بقتل أمّه , مع أنّها قُتلت دون أن يدري , اتّهموه بأنّه أمر بإحراق روما ليشاهد النيران تلتهم معالمها و تفتك بأهلها , بينما هو ينشد الأغاني و يعزف على (الكمان) لاهياً . و الحقّ أنّ النار التي أحرقت روما شبّت قضاءاً و قدراً , و أمّا (الكمان) فلم يُخترَع إلاّ بعد عهده بمئات السنين!

و أضفى المؤرّخون على (قسطنطين الأوّل) صفات القداسة , فلم يعد اسمه يُنطق إلاّ مسبوقاً بلقب قدّيس ..... لماذا ؟ ألأنّه قتل زوجته , و ولدين من أولاده , و نفراً جمّاً من أهله ؟

كما قام المؤرّخون بتقديم مفهومٍ سطحيّ للحروب الصليبيّة , حيث اختزلوه إلى بُعدٍ دينيٍّ فقط , و دوّنوها على أنّها الحروب التي وقعت في سورية في نهاية القرن الحادي عشر . بينما هي بمفهومها العلميّ الحروب التي ارتكزت على أسسٍ اقتصاديّة سلطويّة توسّعيّة كما هي دينيّة . تعود إلى القرن الثامن , بدأت معاركها الأولى في سهل (اللوار) و (الرين) , وُجّهت نحو الوثنيّة بادئ الأمر , ثمّ إلى إلى الإسلام و الوثنيّة معاً , ثمّ إلى الإسلام وحده بعد انحلال الوثنيّة , و لم تكن المعارك المتوالية التي وقعت في سورية و مصر بين المسلمين و الفرنج منذ وجود (فروادى بويون) إلى (لويس التاسع) إلاّ طوراً من أطوار ذلك الصراع العامّ . ففي الوقت الذي انهارت فيه صروح العالم الرومانيّ الشامخة لأسبابٍ عدّة , انقضّ الإسلام على أنقاضها في آسيا ة أفريقيا و شادوا منها دولاً جديدة . ثمّ حاول أن ينفذ إلى سويداء النصرانيّة من المشرق و المغرب معاً , فلاقى خيبته الحاسمة في المشرق أمام أسوار القسطنطينيّة , و لاقى ذات الهزيمة في الغرب فوق ضفاف (اللوار) , و ارتدّت الوثنيّة في نفس الوقت على ضفاف (الرين) أمام نفس أولئك الفرنج الذين وقفوا فلإسلام سدّاً .فوق هذه البسائط و في مهاد تلك المعارك الحاسمة , معارك الحياة و الموت , قدّرت النثرانيّة فداحة الخطر الذي يهدّد كيانها من تدفّق الإسلام و الوثنيّة , لتنشأ في المجتمع النصرانيّ فكرة صراعٍ غامضة استحالت إلى فكرة الحروب الصليبيّة.

تزوير الوثائق التاريخيّة

من الحوادث الهامّة و الشهيرة في تزييف الوثائق , ما أقدم عليه (لوكاس فرين) في فرنسا , حيث قام بتزييف وثائقٍ عدّة و باعها إلى المؤرّخين ذوي الشأن آنذاك في فرنسا و العالم الحديث و على رأسهم العلاّمة (ميشيل شال) على أنّها قديمة و بخطّ كاتبيها و منها : كتاب من الإسكندر المقدونيّ إلى أرساطاطاليس , و أيضاً خطاب من جان دارك إلى الشعب الفرنسي , و باقي الوثائق كانت قد بلغت 27320 خطاباً منسوبة إلى 660 شخصاً من مشاهير التاريخ , و قد تمّ فكّ ملابسات تلك الوثائقو البتّ بقضيّة التزييف هذه فلاقى صانعها مصير السجنلا شكّ أنّ وثائق (لوكاس فرين) تمّ معرفة زيفها بتعيين المعنى الخاص للكلمات في الوثيقة , إذ لم يكن متوفّر في ذاك العهد أدوات قياس عمر المواد كالإستعانة بالمواد المشعّة .

يقوم الكشف اللغوي في الوثيقة على مبادئ بسيطةٍ جدّاً و أهمّها : (1) إنّ اللغة في تطوّر مستمر من شأنه أن يفسدها. و لكلّ عصر لغته الخاصّة , ينبغي النظر إليها على أنّها نظام خاص من الرموز و العلامات . و على هذا فإنّه لفهم وثيقةٍ ما , يتوجّب معرفة لغة العصر , أعني معنى الألفاظ و الصيغ في العصر الذي كتبت فيه الوثيقة - و معنى اللفظ يتعيّن بجمع المواضع التي استعمل فيها , و سنجد غالباً موضعاً فيه باقي الجملة لا يدع شكّاً في المعنى المقصود.(2) الإستعمال اللغوي يمكن أن يختلف من إقليم إلى آخر , و لهذا يجب معرفة لغة الإقليم الذي كتبت فيه الوثيقة , أي المعاني الخاصّة المستعملة بها الألفاظ في الأقاليم المختلفة (3 ) لكلّ! مؤلّف طريقته الخاصّة في الكتابة , و لهذا يجب أن ندرس لغة المؤلّف , و المعنى الخاص الذي استعمل به الكلمات (4) التعبير يختلف معناه بحسب الموضوع الذي يوجد فيه , و لهذا ينبغي أن تفسّر كل كلمة و كل جملة لا مفردة , بل بحسب المعنى العام للفقرة (السياق) و قاعدة السياق هذه : ينبغي ألاّ نفصل كلمتين عن سياقهما , و إلاّ فهذه الوسيلة للغلط في معنييهما , و هذه قاعدة أساسيّة في التفسير , و تقتضي بأنّه قبل أن نستعمل جملة من نص أن نقرأ النص كلّه أوّلاً , و يحظر التقاط الإقتباسات و إدراجها في عمل حديث , أي التقاط شذرات من جمل منتزعة من فقرة لا ندري ما المعنى الخاص الذي لها فيها .

و من المؤلَّفات و الوثائق التاريخيّة التي تمّ تزويرها أو تعديلها نذكر :
مذكّرات هتلرالمنشورة في مجلّة شتيرن عام 1983في العشرين من نيسان 1945 كانت برلين تحترق و في ذاك الوقت أمر هتلر بأن تحرق كلّ أوراقه الشخصيّة و الرسميّة و قد أقرّ خبراءالحكومة الألمانيّة فيما بعد بالتزييف الصارخ الذي أرجحوا أنّه تمّ في عام 1964

البعض من مسرحيّات شكسبير كما اكتشف البروفيسور (دوفر ويلسون 9 و البروفيسور (بولارد) قد كانت موجودة فعلاً قبل عام 1953 بأقلام غير شكسبيريّة كمثل مسرحيّة (هنري الخامس) و (روميو و جولييت) و (هاملت), و أنّ ما فعله شكسبير هو أنّه قوّمها و أصلحها , حيث جعلها على الشاكلة الموجودة لدينا الآن.

تدفعنا هذه الأمثلة للتساؤل عمّا بحوزتنا من وثائق تدّعي القِدّم و الأسبقيّة , فحريٌّ بنا ,قبل أن نهزأ بباقي المؤلّفات المزوَّرة , أن ننظر إلى ما في جعبتنا , و نباشر بالفحص و التدقيق و التمحيص .

تمحيص التاريخ

في الفترة التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى و إلى قيام الحرب العالميّة الثانية , أدركت بعض الأمم أنّ كتابة التاريخ يجب أن يكون تحت إشراف عصبة الأمم و معهد التعاون الفكري , ثمّ بعد الحرب الثانية توبع العمل تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة و منظّمة الأونيسكو , و لكن ظهر أن التواريخ المدوّنة لم تكن تضمن الغاية المنشودة من المصداقيّة , لأنّها لم تكن تكتب بإخلاص بل بتحيّز و اتّجاه معيّن ألا و هو تمجيد أعمال الوطن و تبرير أخطائه , و نقد أعمال و سياسة سائر البلدان و لا سيّما عندما لا تتماشى و مصالحه . و بذلك أصبح التاريخ وسيلة للتضليل لا للتعريف بالحقائق و تكوين مجتمع صالح. و مثال ذلك أنّ كلّ شخصٍ يقرأ في تاريخ بلاده أنّها كانت عُرضةً للمظالم و المطامع , و ضحيّةً بريئة للغاصبين , و قلّما يجد ذِكراً للأخطاء التي ارتكبتها , و الحروب التي يجب أن تتحمّل مسؤوليّتها , و الفظائع التي لم تبالِ بارتكابها , و لئن جاء ذِكر شيءٍ من هذا فإنّما يكون في مقام المُدافِع لا المُعتدي.
و هكذا تتكوّن لدى القارئ الذي تعوزه عناصر المقارنة و روح النقد , هذه الأفكار المضلِّلة و تنطبع في ذهنه, فيعتقد أنّ مواطنيه كانوا عِبر التاريخ و العصور عنوان الفضيلة, و أنّ الأمم الأخرى أممٌ معتدية ظالمة , و بذلك يُصبح هذا الإنسان شذِراً إلى غيره ’ متأثّراً بهذه الأفكار.
و بهذا الصدد قال البروفيسور (بيتر هيل) : إنّ التاريخ الذي يُدرَّس في اتّجاهٍ معيّن يصنع المتطرّفين و المتعصّبين , و التاريخ الذي يُدرَّس على وجهيه يشحذ روح النقد و يجعل المرء أكثر إنسانيّةً و إنصافاً.من هنا تتّضح ضرورة مراجعة الكتب المدرسيّة و كتابتها من جديد بتلك الروح , لأنّ أكثر ما يعانيه العالم اليوم من خلافاتٍ و بغضٍ للآخر المختلف , إنّما يرجع في أصله إلى الفكرة الأولى التي انطبعت في أذهان التلاميذ عن الشعوب الأخرى.

إنّ اكتشاف الباحث المؤرِّخ لما هو (تحت التاريخ) يساعد بالتدريج على إيجاد عالم يقدّر كلّ أصالةٍ في الفكر , و لا يقتصر على الأنواع التي كانت تقدّرها الطبقات الأرستقراطيّة فيما مضى . و في هذا العصر الذي كثُر فيه الخوف من التغيّرات متزايدة السرعة , كثيراً ما يؤدّي هذا الخوف إلى حالة من الجمود نحسبه خطأً علامة الإستقرار , لذا فإنّ تعمّق الباحث في العقل غير الواعي للأجيال الماضية , و كيف كانت عقائدهم و نزعاتهم في تعارضٍ مع اعترافاتهم , يمكن أن يفرغ علينا تواضعاً شافياً حين ننظر إلى ذاتنا . تكوّن عمليّة الإستنباط هذه , مع الإستعانة بباقي أدوات الفكر , ما يُدعى بفلسفة التاريخ .
إنّ مجرى التاريخ متّصل غير منفصل , برغم ما يبدو لمن يقلّب صفحاته متنقّلاً بين عصوره و حوادثه , إذ يجد حروباً غيّرت وجه الأرض فأقامت ممالكَ على أنقاض ممالكٍ أخرى , و يجد ثوراتٍ هدّت معالم الإجتماع , فجعلت العالي سافلاً و السافل عالياً , و يجد طائفةً من العباقرة في السياسة و العلم و الأدب برزوا على معاصريهم , و صبغوا الحضارة بصبغٍ جديدة هي صبغتهم الخاصّة.
من المعروف أنّ غريزة التملّك كانت كبيرة الأثر في جمع الثروة المادّيّة التي اقتضاها سير الحضارة و انتقالها من أدوارها الأولى. و لا تزال ثمّة شعوب و جماعاتٍ لا تسدّ رمقها و لا تصيب مساك عيشها , إلاّ من الصيد و جمع الثمار البرّيّة , كقبائل (البونان) في (بورنيو) و هم سكّان الغابات , و من الملاحظ أنّهم امتازوابالرقّة و لطف المعشر , فلا تجد حروباً نشبت مع غيرهم و لا نزاعاتٍ بينهم . ذلك أنّ غريزة التملّك لم تلعب دوراً كبيراً في مسالك حياتهم . فعندما بدأ الإنسان بانتقالٍ مرحليّ في ممارسة الزراعة , أخذت هذه الغريزة تُحدِث أكبر الأثر في الجماعة , و ذلك لكون الحبوب و الغلال تصلح للإختزان كضربٍ من الثورة , و أكثر الحضارات التي نمت و تطوّرت كثيراً ما قامت على أساس جمع الحبوب و اختزان الغلال . فكانت الحبوب من أهمّ رؤوس الأموال و أكبر السلع التجاريّة شأناً , و لا يخفى ما كان لتجارة من أثرٍ بالغٍ في التطوّر الإجتماعيّ . و كان من أثر تلك الغريزة قيام الجماعات البشريّة بتحرّكاتٍ رسمت مناحٍ عدّة في وجه المعمورة , و لعلّ أكثر صفحات التاريخ البشريّ مستغرقة في وصف قصّة انتشار الإنسان و هجرته و غزوه و فتوحاته و استعماره .الإنتشار , وعلى خلاف الهجرة, هو انتقال الجماعات إلى أصقاعٍ غير مأهولة للإستيطان فيها . أمّا الغزو فكان دخول أقوامٍ عنوةً أرض أقوامٍ أخرى أوفر منهم ثروةً و أكثر ثقافةً ز و كان الفتح إغارة قُبيلٍ من النّاس استقرّ!وا و أثّروا كالرومان على بلاد قومٍ آخرين دونهم في الثقافة و الرخاء كالغال لسيادتهم و حُكمهم و الظفر بسلطان المجد و ابتزاز مواردهم أيضاً . و يقتضي الغزو ذهاب شطرٍ من القوم الغازين أو انتقالهم جميعاً إلى الأرض الجديدة للإستقرار فيها , أمّا الفتح فإنّ الفاتحين لا يغيّرون مقامهم إلاّ على القدر الكافي للإشراف على البلد المفتوح و استغلال موارده.
إنّ كثرة التزاوج بين الغزاة و المغزوّين أحدثت آثارها البيولوجيّة و معقّباتها الإجتماعيّة , حتّى لم تترك جنساً من الأجناس على أصله , و لم تدع أرضاً يمكن أن يدّعي أهلها أنّهم مواطنوها الأوّلون , باستثناء بعض المناطق التي لم تكن عرضةً للمطامع , او التي يتعذّر الوصول إليها.
و جاء عهد الإستعمار باتقال أقوامٍ من أوطانهم إلى أقاليمٍ أُخضِعت لها من الوجهة السياسيّة , وكانت بداية هذه الحركات في القرن السابع عشر , و ظلّت قائمة إلى القرن الماضي , و قد جعلت أهدافها أمريكا و أفريقيا و أستراليا , و ليس من شكّ في أنّ الدول الكبيرة إنّما تلتمس الظفر بمستعمراتٍ لأسبابٍ اقتصاديّةٍ أوّلاً , و للسيطرة و المجد ثانياً , فإنّ المستعمرات كانت كفيلة لها بالمواد الأوّليّة , و هي أيضاً أسواق نافقة لتصريف منتجاتها , و منفذٌ لتخفيف عن زحمة السكّان في بلادها . يقودنا بحثنا في العقل غير الواعي للعصور الماضية إلى تفاصيل وافية و نتائج ثابتة , حتّى نحصل على أدلّة بالمعنى المألوف في الوثائق التاريخيّة , و الواقع أنّ طريقة البحث هذه تمثّل وجهة جديدة تماماً , و انقلاباً في التفكير المعهود . إنّنا بذلك نضع الماضي على سرير التحليل النفسيّ .
و معرفة الحاضر تزيد من فهمنا للماضي , و التعرّف على المفهومات التي استحدثها علماء الإجتماعيّات لتحليل العمليّات الإجتماعيّة المعاصرة , بسهّل التحرّي عن العمليّات المشابهة التي تواجهنا في المدوّنات التاريخيّة . و يحدث العكس أيضاً لأنّ معرفة تاريخ الماضي تنير فهمنا للحاضر , و تقوم في الوقت ذاته بشحذ أدوات التحليل و توسيع نطاق الشواهد التي تستخدمها العلوم الإجتماعيّة غير التاريخيّة .

إنّ المؤرّخين , على غرار النّاس العاديّين , يقعون أحياناً في استخدام لغة البلاغة , و يتحدّثون عن حدثٍ ما بوصفه (حتميّاً) , في حين أن كلّ ما يقصدونه هو أنّ تضافر العنصر الذي يدفع المرء إلى توقّع ذلك الحدث كان قويّاً للغاية .

يرى ابن خلدون أنّ الحضارات تتعاقب عليها أطوار ثلاثة : هي طور البداوة , و طور التحضّر , و طور التدهور . ففي طور البداوة تجمع النّاس رابطة العصبيّة على ما هو ضروريّ , ثمّ تطلب الغلبة على القبائل الأخرى حتّى تستتبعها و تلتحم بها . و لا تظفر الجماعة باللإنتصار و السيادة إلاّ إذا اعتمدت على مبدأ دينيّ أو سياسيّ , حيث تتشكّل الدولة , بعد أنّ تمّ لها فتح الأمصار و أصبحت تنعم ببحبوحةٍ و عيشٍ كريم . على أنّ تقدّم الحضارات يتوقّف على ثلاثة أشياء , هي مزايا الأرض و مزايا الحكومة , و مزايا السكّان . بعد ذلك يأتي طور التدهور حيث يرى ابن خلدون أنّ عوامل تحضُّر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها . و أوّل هذه العوامل هي العصبيّة , و محاولة الملك التفرُّد بالحكم و التخلّي عن أبناء قبيلته , و بالتالي الإستعانة بالموالي . و العامل الحاسم في تدهور الدولة هو الترف الذي يفسّره ابن خلدون بأسبابٍ اقتصاديّة و أخلاقيّة و نفسيّة .

إنّ التقدّم في التاريخ – و على عكس التطوّر في الطبيعة – يستند إلى تناول الموارد المكتسَبة . و تشمل هذه الموارد الممتلكات المادّيّة و كذلك القدرة على التحكّم بالبيئة و تحويلها و استخدامها . و بالفعل فإنّ هذين العنصرين مترابطان بشدّة و يؤثّر الواحد منهما في الآخر . إنّ كارل ماركس ينظر إلى العمل الإنسانيّ بوصفه أساس الصرح الإجتماعيّ بأسره , و تبدو هذه الصيغة مقبولة إذا ما أُعطيت كلمة (العِلم) معنىً واسعاً بما فيه الكفاية .إذ أنّ مجرّد مراكمة الموارد لن تجدي إلاّ إذا ترافقت ليس مع تزايد المعرفة و الخبرة الفنّيّة و الإجتماعيّة فحسب , بل و مع تزايد الحكّم ببيئة الإنسان بالمعنى الأوسع .

ولا يجوز أن يبدأ التاريخ من مرحلة معينة دون أخرى أو أبراز فكرة محددة على حساب أخرى . إنّ الأفكار و الوقائع تجري في نسق معيّن , فكلّ واقعة مرتبطة بأخرى , و أخريات .و تتضمّن الوقائع علاقات , و الملاحظة توجّه إلى كلّ من الوقائع , و علاقتها بالوقائع الأخرى في آنٍ واحد.و على هذا فلا ينبغي أن يتعدّى كون المؤرّخ أكثر من جامع للأخبار , و إنّما يكون كمحقّق و باحث و مجرّب أيضاُ .

إن التوق إلى تعليل التاريخ عميق الجذور إلى حدّ أنّنا مُعرَّضون , إذا لم نمتلك وجهة نظر بناءه في الماضي , للإنزلاق إلى أحد أمرين : الغيبيّة أو الشكّيّة .

أهواء المؤرّخين

ينطلق المؤرخين من مقدّمات واحدة و لكنّهم يصلون إلى غاياتٍ مختلة , و كلٌّ منهم يفترض أن الغاية التي بلغها هي الصحيحة المنشودة. فالإقتناع يمكن نعتبره نتيجة يعتقد صاحبها أنّها صحيحة عن إحساسٍ شخصيّ , إمّا لأسباب عاطفيّة أو ذهنيّة , قد يضمرها أو يعلنها , ممّا يجعل كلّ اختصام حالة قائمة بذاتها , تتوقّف على طبيعة الموقف و التفسير أو التأويل أو السياسة التي تكمن وراء القضيّة. و هذا على خلاف ما في المسائل الرياضيّة , فلا يمكن أن يكون هناك اختصام في النتيجة لأنّ المقدّمات محدّّّّدة , و قواعد الإستدلال ثابتة , فيكون الجواب محتوماً. و لهذا لا يقوم خلاف بشأن المسائل الرياضيّة. فالفرق بين الأمرين هو مسألة تحديد عناصر القضيّة المختلف عليها , فهي لا توضع في الغالب وضعاً محدّداً دقيقاً , كمثل أن يقوم فريقين بقياس ارتفاع قمّة جبل بأجهزة المساحة , فقد يحدث بينهما اتّفاقٌ كامل , أو يقع بينهما اختلافٌ هيّن . أمّا إذا كان الإختلاف كبيراً في النتيجتين , فيكون أحد الفريقين قد أخطأ في الملاحظة أو الحساب , و متى صُحّح الخطأ عاد الإتّفاق بينهما. ذلك أن مسألة القياس هذه خارجة عن نطاق الإختصام , لأنّها تقاس بوسائل متّفق عليها , فنحن هنا لسنا بصدد نظريّة أو تأويل , بل بصدد واقع لا خلاف عليه. و لو أنّ جميع ما يتعلّق بالإهتمام البشريّ كان من هذا القبيل , لاختفت الخصومات و أصبحت أنواع الإقتناع واحدة , لحصول الإقتناع دائماً على أشياء واحدة.

إنّ اختلاف المقاصد و العقبات التي تحول دون توافقها و تجانسها من أهمّ موانع الإتّفاق على نتائج واحدة . و الحقيقة أنّ الإختلاف في تأويل عناصر القضيّة الفكريّة أخطر بكثير من الإختلاف على العناصر نفسها . فقد يتّفق الناس على العناصر من حيث هي , و لكن تأويلهم لكلّ منها هو سبب الإختلاف الذي لا يرجى معه اتّفاق. فالتأويل هو الذي يدخل العنصر الذاتيّ في القضيّة . لأنّ لكلٍّ من المتخاصمين هدفه الخاص من القضيّة و مقصده الشخصيّ . فليس الهدف بين المتخاصمين على الدوام واضحاً مثل قياس ارتفاع جبل . و ليست أدوات الحكم دائماً ممّا يركن إليه كأجهزة المساحة.
إنّ التحليل و التركيب يتمّ بهما تجزئة المواقف أو المفهومات , ثمّ إعادة إنشائها في صيغة جديدة , و هذا ما يتمثّل في الإتجاه العلمي في التاريخ , حيث يقوم المؤرّخ بباستخدام أدوات التفكير و يستعين بالملاحظة و الذاكرة و المخيّلة , و في هذه العمليّات جميعاً لا بدّ من خيوطٍ رابطة , يسمّيها علماء النفس عمليّة التداعي أو الترابط. و لا توجد قواعد ثابتة للتداعي السديد , الذي نقوم بالإستناد على نتائجه بالحكم على المعطيات .
و الحكم هوعبارة عن تمييز تضاف له قيمة معنويّة , مثل الصواب و الخطأ , و الجودة و الخسّة .و لكن كثيراً ما يقوم النّاس بالحكم بأحكامٍ متباينةٍ على ذات الأشياء , و هذا مرجعه الدوافع التي توجّهنا لإطلاق الأحكام انطلاقاً من ذواتنا , و ليس ارتكازاً على ماهيّة الشيء أو الموقف أو الفعل الذي نقوم بالحكم عليه . الأفعال الإنسانيّة علّتها ليس في نفسها بل لها دوافع . و هذه الكلمة الغامضة تدلّ في وقتٍ واحد على الحافز الذي يحفّز على إنجاز فعل و على الإمتثال الواعي الذي لدينا عن الفعل في لحظة إنجازه . و لا نستطيع أن نتخيّل دوافع إلاّ في ذهن إنسان على شكل امتثالات ٍ باطنة غامضة , مماثلة لتلك التي لدينا عن أحوالنا الداخليّة الخاصّة , و لا نستطيع أن نعبّر عنها إلاّ بكلمات , في العادة مجازيّة . و تلك هي الوقائع النفسيّة التي تٌسمّى باللغة العامّة : العواطف و الأفكار.

و في الوثائق نستشفّ ثلاثة أنواع من الدوافع: (1) دوافع و تصوّرات المؤلّفين الذين عبّروا عنها (2) الدوافع و الأفكار التي نسبها المؤلّفون إلى معاصريهم الذين عاينوا أفعالهم (3) دوافع يمكن أن نفترضها لأفعالٍ واردة في الوثائق و نتمثلها نحن لأنفسنا على غرار أفعالنا.

في القضايا التاريخيّة كثيراً ما نصل إلى نتائج غير دقيقة إمّا عن إهمال أو قصور في كفايتنا الفكريّة .

و عين الحبّ عن الأخطاء عمياء بالمزايا و المحاسن حديدة البصر . أمّا عين السخط و الكراهيّة فعمياء عن المحاسن , حديدةٌ في الكشف عن العيوب و المثالب. و نحن حريّون أن نعزو صفاتٍ و مزايا مستحبّة إلى ذوات الجمال و ربّات الحسن , و هنّ عاطلاتٌ من ذلك . و من العسير علينا أيضاً أن نتبيّن مزايا حقيقيّة موجودة فعلاً في ذوات القبح.

فالعلاقات الإنسانيّة عاطفيّة إلى درجة كبيرة . و لهذا تكون الأحكام الخاصّة بهذه العلاقات ميداناً خصيباً بنشاط الأهواءو لكن مرادنا أن نعامل المشكلات العامّة بأسلوبٍ عقليّ منزّه عن الأهواء , و ما يحدث عادةُ على الرغم من صدق نيّتنا في العدل أنّّنا نمزج المنطق بالهوى أو المعتقدات السابقة التي تٌسمّى بالسبقيّات . و في النهاية نجد سنداً سليماً بعض الشيء لنتائج أحكامنا , يسانده خليطٌ متباينٌ من الميول العاطفيّة التي تجنح بنا إلى القبول بتلك النتائج.

إنّ من أسباب الهوى في التفكير التاريخيّ أننا نفكّر جميعاً , على حسب ما يتراءى لنا , و الأهواء تتشرّب بها عقولنا . كما نتشرّب بالمعتقدات العامّة عن طريق الإيحاء و التقليد لمن نجعلهم قدوة لنا في سلوكنا و اعتقاداتنا ,و بتأثير الآراء و العواطف التي نتعرّض لها . فتفكيرنا متأثّر بصورة معقّدة و خفيّة بمشاعرنا الشخصيّة و الإجتماعيّة . و الآراء و العواطف تنتقل بالعدوى . و الهوى يسري بسهولة و من العسير اقتلاعه ما دامت العواطف غالبة على العقل كما هي الحال غالباُ.

ما أردنا قوله في هذا الفصل أنّ الأهواء - فيما يخصّ كتابة التاريخ - إذا ما تلاشت في فترة من الفترات لا تلبث أن تنشأ في مكانها أهواءٌ جديدة . فنحن أفراداُ و جماعاتٍ , معرّضون للهوى , بتأثير عواطفنا . و هذا الهوى تختلف درجة شدّته و تشويهه لعدالتنا و موضوعيّة نظرتنا إلى الأمور. و قد يصل تأثيره إلى حدّ المرض لدى المصابين بالبرانويا و ما إلى ذلك من الأمراض العقليّة التي يتصوّر امصابون بها أنّ الواقع مشكّل على غرار أوهامهم و تصوّراتهم.
و مع ذلك فالإصابات الخفيفة بهذا الشأن مألوفة لدى المؤرّخين بل حتّى بين رجال العلم حين يتعصّبون لفروضهم و نظريّاتهم مدفوعين برغباتهم و تصوّ!راتهم على حساب الموضوعيّة فيبيتون أقلّ موضوعيّة ممّا يبدون في الظاهر.
إن معظم المؤرّخين حين يقعوا في هذا الخطأ يكونوا مخدوعين . إذ يبدأون نسيج الحقيقة بلحمة من الواقع و سداةٍ منه . و لكن بينما هم يمدّون الخيوط في عمليّة النسيج يتدخّل خيطٌ من رغباتهم أو ذاتيّتهم من حيث لا يدرون. فإذا بالنسيج يأخذ اتجاهاً و لوناً خاصّاً يميل لإعتقادهم الشخصيّ , لا للموضوعيّة الخالصة .فالمؤرّخ الذي يستخدم خياله في تأويل الوقائع و إتمامها , يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه , و خياله في تأويل الوقائع ليس محايداً , فغرضه ليس تحقيق الفروض تحقيقاً نزيهاً بل غرضه إثباتها جهد الإثبات.

و قد دفع أمر انزلاق المؤرّخين كما غيرهم من الأناس و العقول العاديّة , الدكتور (ديفيد جوردان) إلى تسجيل اتجاهات هذا النوع من التفكير الذي يصدر عن عقولٍ ذات مخيّلة خصبة و منطق محدود , و أطلق على ذلك التفكير اسم (البلاهة العُليا أو الراقية) .

________________________________________________________

المراجع:
نحن و التاريخ - د . قسطنطين زريق
النقد التاريخي - عبد الرحمن بدوي
التفكير السديد - جوزيف جاسترو - تعريب نظمي لوقا
فلسفة التاريخ - جون إيلون بودين - ترجمة عمر ديراوي

بعد أن خسر حلم "الرئاسة" في بيروت...دمشق تعمّد الجنرال "بطريركا سياسيا"

10 - 12 - 2008


كتب: عريب الرنتاوي

حدث قبل عشرين عاما.كنت في نيقوسيا أدير مركزا للأبحاث السياسية والخدمات الإعلامية، في الوقت الذي كان فيه العماد ميشيل عون يخوض حرب إلغاء ضد القوات اللبنانية، وحرب تحرير ضد الجيش السوري، ونجحت بمساعدة بعض الأصدقاء اللبنانيين على تأمين "اتصال منتظم" مع الجنرال المحاصر في قصر بعبدا بطوفان من البشر، جاءوا من كل المناطق والطوائف، لتوفير "درع بشري" يحول بينه وبين المدافع والطائرات السورية المتربصة به يومذاك
.وإن لم تخنِّ الذاكرة، فقد كان الملازم (النقيب) يوسف الأندري هو الضابط المسؤول عن الاتصال بوسائل الإعلام في مكتب العماد، ومن خلاله كنا نتابع الموقف لحظة بلحظة، وعن كثب، خصوصا حين اشتد الهجوم السوري على بعبدا، ودخل سلاح الطيران على خط المعركة، ولم يتبق للجنرال سوى ملجأ القصر يلوذ إليه.ظلت معنويات العماد ميشيل عون مرتفعة، برغم كافة المؤشرات التي كانت تلوح في أفق المواجهة والصفقات الدولية، وأذكر أنني سألته ذات اتصال، وقد كان خبر امتلاكه صواريخ "فروغ" روسية الصنع من العراق، قد ذاع وشاع، ما الذي ينوي فعله بهذه الصواريخ، فأجاب أنه سيقصف بها دمشق إن استمر القصف السوري لبيروت، ويومها نَشَرتُ الحوار في صحيفة الشرق القطرية التي كان يرأسها الأستاذ ناصر العثمان، وبالمناسبة فإن حكاية صواريخ الفروغ التي قيل أن العراق كان مصدرها وكانت سببا عجّل في احتلال بعبدا، كانت شبيهة بحكاية أسلحة الدمار التي قيل بأن العراق امتلكها وكانت سببا لاحتلاله.كان العماد شيطانا رجيما في عيون كل صديق لسوريا في لبنان، وكان فارسا مغوارا ومعقد رجاء وموئل أمل لكل الموالين للعراق من اللبنانيين، ولم يكونوا كثر على أية حال في تلك الأزمنة، حتى أن أحد أبرز رموز نظام البعث العراقي في لبنان وعضو القيادة القومية للحزب الأستاذ عبد المجيد الرافعي، لم يكن قادرا على البقاء في مدينته طرابلس، خشية أن تطاله يد الاغتيالات الطويلة آنذاك، والتي طالت من ضمن طالتهم: "خالد العراقي" وأحمد المير الأيوبي.
خرج الجنرال تحت جنح التسويات والصفقات التي صاحبت حرب الخليج الثانية من موقعه كزعيم لا تشق له غبار، تماما مثلما خرج تحت جنح الظلام، وبحماية السفارة الفرنسية إلى منفاه الباريسي الطويل، والذي لم يعد منه إلا بعد أن خرجت سوريا من لبنان، إثر اغتيال الحريري وما أعقب ذلك من تطورات باتت معروفة للجميع.عاد الجنرال إلى لبنان بعد أن خرجت سوريا منه، ليبدأ رحلة تطبيع العلاقات مع سوريا، والتي توجت مؤخرا بزيارته إلى دمشق وحلب وحمص، ولقاءاته الثلاث مع الرئيس السوري، مع كل ما صاحب الزيارة من مظاهر حفاوة، لم يحظ بها – على ما أحسب – زعيم لبناني من قبل.لقد توجت سوريا، خصمها السابق وحليفها الحالي، ملكا للمسيحية الشرقية، والأرجح أن العماد ميشيل بعد زيارة سوريا، ليس العماد نفسه قبلها، لا من حيث اللغة والخطاب والتحالفات، ولا من حيث درجة الرضى عن النفس والموقع والدور، ولا أحسب أن أحدا مثل سوريا، استطاع أن يعوض الجنرال عن خسارة حلمه برئاسة لبنان، فقد عمّدته "بطريركا سياسيا" للمسيحيين عموما والموارنة منهم بشكل خاص.